Episode 2350
رواية المزحة
ميلان كونديرا
"سأقول لك شيئاً: كان يعيش في جنيف، عندما كان كالفن سيداً فيها، صبي ذكي ومَزوح. وقعت دفاتره المليئة بنكاتٍ على يسوع المسيح والكتاب المقدس في أيدي السلطة. لا شك في أن هذا الصبي الذي يشبهك كثيراً قد تساءل: أهناك ما يُغضب؟ فبعد كل شيء، لم يقترف شراً، إنه يمزح، هذا هو كل شيء. الكراهية؟ لم يعرفها أبداً. لم يكن يعرف، دون شك، إلا السخرية واللامبالاة، وقد أُعدم.
آه، لا يذهب بك الظن إلى أني من أنصار مثل هذه القسوة! أريد ببساطة أن أقول بأن أية حركة كبيرة تريد تحويل العالم لا تتسامح بالتهكم، أو بالسخرية لأنهما صدأ يأكل كل شيء."
إنها رواية صراع الفرد مع المؤسسة الحزبية، عندما تكون هذه المؤسسة ضيقة الأفق، تلغي هامش الحرية للفرد، من خلال هيمنتها الإيديولوجية ورؤيتها الأحادية.
بأسلوب تحليلي، ساخر، يروي كونديرا الحالة المأساوية للإنسان المحاصر داخل حلقة من حلقات الميراث الستاليني في ظل النظام الاشتراكي في تشيكوسلوفاكيا.
في لحظة ما خلال مناورات المراهق لودفيك من أجل التأثير في ماركيتا الفتاة التي تثير إعجابه، يشعر بالغيظ منها فيرسل لها ردًّا غرضه إثارة غضبها، والسخرية منها؛ فيقول: «التفاؤل هو أفيون الجنس البشري! الروح المعافاة تفوح بنتن الغباء. عاش تروتسكي! لودفيك.» العبارات التي كتبها دون حتى أن يؤمن بها تقلب حياته رأسًا على عقب حين يعرف بها زملاؤه في الحزب وفي اتحاد الطلاب، واعتُبِرت أنها عدائية للشيوعية. وفي سياق مزايدات، وخطاب عام إقصائي مشوش سيطر على العصر في التشيك في ذلك الوقت، تتعقد الأمور. يحاول لودفيك الدفاع بأن هذه العبارات مجرد مزحة كتبها بسرعة دون أن يفكر، لكن زملاءه لا يصدقونه ولا يتعاطفون مع التبرير، بل ويقول أحدهم له: «من المحتمل أنك لم تكن لتكتب هذا لو فكرت أكثر من ذلك. بهذه الطريقة كتبت دون قناع. بهذه الطريقة نعرف على الأقل من أنت. نعرف أن لك وجوهًا: واحدًا للحزب وثانيًا للآخرين.»
هذه الحادثة التي يسترجعها لودفيك الرجل ذو السبعة والثلاثين عامًا، صارت بالنسبة له نقطة تحوُّل أساسية في نظرته للدولة، والنظام. وصارت أيضًا اللحظةُ التي ارتفعت فيها أيادي مائة من زملائه وأصدقائه للتصويت ضده، إما مزايدةً أو خوفًا، لحظةً مرجعيةً لنظرة متشائمة، شاكَّة في الأشخاص، والعالم.
لكن هل الرواية عن لودفيك؟ لا أظن أن هذا القول سليم رغم أهمية لودفيك في أحداث الرواية. فمن جهة أولى تستخدم الرواية رواةً متنوعين، ومن خلال العيون المختلفة، يتم النظر إلى أحداث الحاضر والماضي من زوايا متنوعة. ومن جهة ثانية فعنوان الرواية (المزحة) رغم أنه يشير بشكل واضح للحادثة المذكورة آنفًا، إلا أن الرواية توضح مع الوقت أن هذه المزحة التي لم يتم قبولها أو فهمها، هي مجرد مزحة من سلسلةٍ من المزحات أو المهازل التي تتكشف لعيون الأبطال، في نظام يتفسخ، تحت تأثير زيفه. الرواية ليست عن شخص أيًّا كان، الرواية عن عصر.
كونديرا معماريٌّ بارع، فإذا كنت في حديثي عن رواية نرسيس وغولدموند لهرمان هسة قد أشرت لعناصر مثل: رحلة الأبطال للبحث عن الذات، والاهتمام بما في داخل عقول الأبطال أكثر من الاهتمام بالأحداث الخارجية، فإن الصفة الأنسب لعوالم كونديرا هي صفة البناء الكبير؛ يقسِّم كونديرا الرواية إلى سبعة أجزاء ويقسِّم الأجزاء إلى فصول، وأثناء الانتقال من فصل لآخر يحوِّل وجهات النظر، ويضع كل قطعة في مكانها المناسب ليخلق فسيفساء كبيرة تنكشف بنيتها مع تقدم الرواية. الأحداث في الرواية كثيرة ومتشابكة والسرد ينطلق من الحاضر للماضي ذهابًا وعودة، ويتسارع ويتباطأ ببراعة موسيقيٍّ موهوب.
كما قلت، هناك حدث مركزي لكنه ليس الحدث الوحيد، فحول هذه النقطة التي تُقدَّم كنقطة مركزية منذ البداية، كانت هناك نقاط أخرى أصغر أو لعلها بدت أصغر في البداية من حيث وقفنا كقراء، لكن هذه النقاط معًا شكَّلت زخرفة متشابكة متكاملة يمكنك أن تتحدث عن كل نقطة منها كمركز: طرد لودفيك من الحزب، مضاجعته لهيلين، حكايته مع لوسي، حكاية كوستا، حكاية جاروسلاف، المكان نفسه بطل، والتاريخ كذلك. طوال الرواية أنت منجذب كقارئ للسرد الممتع، وهو ما يدفعك للتساؤل — إن كنت كاتبًا أو قارئًا واعيًا — أسئلة تتركز حول بنية الرواية، تحاول في عقلك عمل هندسة عكسية لهذه البنية، بغرض استنتاج الطريقة التي فكَّر فيها الكاتب في بناء هذه الرواية، تحاول الانتقال من مقعد المتفرج السلبي، لمقعد المتعلم. ولعل ما كتبته هنا هو محاولة لفهم بنية الرواية من أجل التعلم.
في البداية كان لكل شخصية جزء منفصل تتحدث فيه بصوتها، وتلقي من زاويتها نظرة على الأحداث، لكن الجزء السابع (الأخير) ضمَّ أصواتًا متعددة تتغير من فصل لفصل: هي فصول قصيرة، سريعة، تتعاقب وجهات النظر فيها
Published on 7 months, 1 week ago
If you like Podbriefly.com, please consider donating to support the ongoing development.
Donate